فصل: ذكر ملك الفرنج حصن روطة من بلاد الأندلس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة تسع وعشرين وخمسمائة:

.ذكر وفاة الملك طغرل وملك مسعود بلد الجبل:

قد ذكرنا قدوم السلطان مسعود إلى بغداد منهزماً من أخيه الملك طغرل بن محمد، فلما وصل إلى بغداد أكرمه الخليفة وحمل إليه ما يحتاج إليه مثله، وأمره بالمسير إلى همذان وجمع العساكر ومنازعة أخيه طغرل في السلطنة والبلاد، ومسعود يعد ويدافع الأيام، والخليفة يحثه على ذلك، ووعده أن يسير معه بنفسه، وأمر أن تبرز خيامه إلى باب الخليفة.
وكان قد اتصل الأمير البقش السلاحي وغيره من الأمراء بالخليفة، وطلبوا خدمته، فاستخدمهم واتفق معهم. واتفق أن إنساناً أخذ فوجد معه ملطفات من طغرل إلى هؤلاء الأمراء وخاتمه بالإقطاع لهم، فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه أغلبك ونهب ماله، فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا إلى عسكر السلطان مسعود، فأرسل الخليفة إلى مسعود في إعادتهم إليه، فلم يفعل واحتج بأشياء، فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما وحشة أوجبت تأخره عن المسير معه، وأرسل إليه يلزمه بالمسير معه أمراً جزماً، فبينما الأمر على هذا إذ جاءه الخبر بوفاة أخيه طغرل، وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم، وكان خيراً عاقلاً عادلاً قريباً إلى الرعية محسناً إليها، وكان قبل موته قد خرج من داره يريد السفر إلى أخيه السلطان مسعود فدعا له الناس، فقال: ادعو بخيرنا للمسلمين.
ولما توفي ووصل الخبر إلى مسعود سار من ساعته نحو همذان، وأقبلت العساكر جميعها إليه، واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان قد خرج في صحبته هو وأهله، ووصل مسعود إلى همذان واستولى عليها وأطاعته البلاد جميعها وأهلها.

.ذكر قتل شمس الملوك وملك أخيه:

في هذه السنة، رابع عشر ربيع الآخر، قتل شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغدكين صاحب دمشق، وسبب قتله أنه ركب طريقاً شنيعاً من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أعمال البلد، وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس بحيث أنه لا يأنف من أخذ الشيء الحقير بالعدوان، إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة وكرهه أهله وأصحابه ورعيته.
ثم ظهر عنه أنه كاتب عماد الدين زنكي يسلم إليه دمشق ويحثه على سرعة الوصول، وأخلى المدينة من الذخائر والأموال، ونقل الجميع إلى صرخد، وتابع الرسل إلى زنكي يحثه على الوصول إليه ويقول له: إن أهملت المجيء سلمتها إلى الفرنج، فسار زنكي، وظهر الخبر بذلك في دمشق فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، وأنهوا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه، ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر.
ثم إنها ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه، فلما رأته على ذلك أمرت غلمانها بقتله فقتل، وأمرت بإلقاءه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلاً سروا لمصرعه وبالراحة من شره.
وكان مولده ليلة الخميس سابع جمادى الآخرة سنة ستة وخمسمائة، وقيل كان سبب قتله أن والده كان له حاجب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكناً منه حاكماً في دولته، ثم في دولة شمس الملوك، فاتهم بأم شمس الملوك، ووصل الخبر إليه بذلك فهم بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصن بها، وأظهر الطاعة لشمس الملوك، فأراد قتله أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفاً منه، والله أعلم.
ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري وجلس في منصبه وحلف له الناس كلهم واستقر في الملك، والله أعلم.

.ذكر حصر أتابك زنكي دمشق:

في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق، وكان نزوله عليها أول جمادى الأولى، وسببه ما ذكرنا من إرسال شمس الملوك صاحبها إليه واستدعاءه ليسلمها إليه، فلما وصلت كتبه ورسله بذلك سار إليها، فقتل شمس الملوك قبل وصوله، ولما عبر الفرات أرسل إليه رسلاً في تقرير قواعد التسليم، فرأوا الأمر قد فاته إلا أنهم أكرموا وأحسن إليهم وأعيدوا بأجمل جواب، وعرف زنكي قتل شمس الملوك، وأن القواعد عندهم مستقرة لشهاب الدين، والكلمة متفقة على طاعته، فلم يحفل زنكي بهذا الجواب، وسار إلى دمشق فنازلها، وأجفل أهل السواد إلى دمشق، واجتمعوا فيها على محاربته.
ونزل أولاً شماليها ثم انتقل إلى ميدان الحصار، وزحف وقاتل، فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقاً تاماً على محاربته، وقام معين الدين أنز مملوك جده طغدكين في الحادثة بدمشق قياماً مشهوداً، وظهر من معرفته بأمور الحصار والقتال وكفايته ما لم ير وما كان سبب تقدمه واستيلاءه على الأمور بأسرها، على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
فبينما هو يحاصرها ووصل رسول الخليفة المسترشد بالله وهو أبو بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر بخلع لأتابك زنكي، ويأمره بمصالحة صاحب دمشق الملك ألب أرسلان محمود الذي مع أتابك زنكي، فرحل عنها لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة المذكورة.

.ذكر قتل حسن بن الحافظ:

قد ذكرنا سنة ست وخمسمائة أن الحافظ لدين الله صاحب مصر استوزر ابنه حسناً، وخطب له بولاية العهد، فبقي إلى هذه السنة ومات مسموماً، وسبب ذلك أن أباه الحافظ استوزه وكان جريئاً على سفك الدماء، وكان في نفس الحافظ على الأمراء الذين أعانوا أبا علي بن الأفضل حقد، ويريد الانتقام منهم من غير أن يباشر ذلك بنفسه، فأمر ابنه حسناً بذلك، فتغلب على الأمر جميعه، واستبد به، ولم يبق لأبيه معه حكم، وقتل من الأمراء المصريين ومن أعيان البلاد أيضاً حتى إنه قتل في ليلته واحدة أربعين أميراً.
فلما رأى أبوه تغلبه عليه أخرج له خادما من من خدم القصر الأكابر، فجمع الجموع وحشد من الرجالة خلقاً كثيرا، وتقدم إلى البلد، فأخرج إليهم حسن جماعة من خواصه وأصحابه، فقاتلوهم، فانهزم الخادم وقتل من الرجالة الذين معه خلق كثير، وعبر الباقون إلى بر الجزيرة، فاستكان الحافظ، فصبر تحت الحجر. ثم إن الباقين من الأمراء المصريين اجتمعوا واتفقوا على قتل حسن، وأرسلوا إلى أبيه الحافظ وقالوا له: إما أنك تسلم ابنك إلينا لنقتله أو نقتلكما جميعاً، فاستدعى ولده إليه واحتاط عليه، وأرسل إلى الأمراء بذلك، فقالوا: لا نرضى إلا بقتله. فرأى أنه إن سلمه إليهم طمعوا فيه وليس إلى إبقائه سبيل، فأحضر طبيبين كانا له أحدهما مسلم والآخر يهودي، فقال لليهودي: نريد سماً نسقيه لهذا الولد ليموت ونخلض من هذه الحادثة. فقال: أنا لا أعرف غير التقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية. فقال: أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة. فقال له: لا أعرف شيئاً. فأحضر الطبيب المسلم وسأله عن ذلك، فصنع له شيئاً فسقاه الولد فمات لوقته، فأرسل الحافظ إلى الجند يقول لهم: إنه قد مات. فقالوا: نريد أن ننظر إليه، فأحضر بعضهم عنده فرأوه وظنوه قد عمل حيلة، فجرحوا أسافل رجليه فلم يجر منها دم، فعلموا موته وخرجوا.
ودفن حسن وأحضر الحافظ الطبيب المسلم وقال له: ينبغي أن تخرج من عندنا من القصر، وجميع ما لك من الإنعام والجامكية باق عليك، وأحضر اليهودي وزاده وقال له: أعلم أنك تعرف ما طلبته منك ولكنك عاقل فتقيم في القصر عندنا.
وكان حسن سيء السيرة ظالماً جريئاً على سفك الدماء وأخذ الأموال، فهجاه الشعراء، فمن ذلك ما قال المعتمد بن الأنصاري صاحب الترسل المشهور:
لم تأت يا حسن بين الورى حسناً ** ولم تر الحق في دنيا ولا دين

قتل النفوس بلا جرم ولا سبب ** والجور في أخذ أموال المساكين

لقد جمعت بلا علم ولا أدب ** تيه الملوك وأخلاق المجانين

وقيل إن الحافظ لما رأى ابنه تغلب على الملك وضع عليه من سقاه السم فمات، والله أعلم.
ولما مات حسن استوزر الحافظ الأمير تاج الدولة بهرام، وكان نصرانياً، فتحكم واستعمل الأرمن على الناس، فاستذلوا المسلمين، وسيأتي ذكر ذلك سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة إن شاء الله تعالى.

.ذكر مسير المسترشد بالله إلى حرب السلطان مسعود وانهزامه:

في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود في شهر رمضان، وسبب ذلك أن السلطان مسعوداً لما سافر من بغداد إلى همذان، بعد موت أخيه طغرل، وملكها، فارقه جماعة من أعيان الأمراء منهم يرنقش بازدار وقزل آخر وسنقر الخمارتكين والي همذان، وعبد الرحمن بن طغايرك، وغيرهم، خائفين منه، مستوحش، ومعهم عدد كثير وانضاف إليهم دبيس بن صدقة. وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه الأمان ليحضروا خدمته، فقيل له: إنها مكيدة لأن دبيساً معهم، وساروا نحو خوزستان، واتفقوا مع برسق بن برسق، فأرسل الخليفة إليهم سديد الدولة ابن الأنباري بتوقيعات إلى الأمراء المذكورين بتطييب نفوسهم والأمر بحضورهم.
وكان الأمراء المذكورون قد عزموا على قبض دبيس والتقرب إلى الخليفة بحمله إليه، فبلغه ذلك فهرب إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد في رجب، فأكرمهم الخليفة وحمل إليهم الإقامات والخلع، وقطعت خطب السلطان مسعود من بغداد، وبرز الخليفة في العشرين من رجب على عزم المسير إلى قتال مسعود وأقام في الشفيعي، فعصى عليه بكبه صاحب البصرة فهرب إليها، فراسله وبذل له الأمان فلم إليه.
وتريث الخليفة عن المسير وهؤلاء الأمراء يحسنون له الرحيل، ويسهلون عليه الأمر، ويضعفون عنده أمر السلطان مسعود، فسير مقدمته إلى حلوان فنهبوا البلاد، وأفسدوا ولم ينكر عليهم أحد شيئاً، ثم سار الخليفة ثامن شعبان ولحق به في الطريق الأمير برسق بن برسق فبلغت عدتهم سبعة آلاف فارس، وتخلف بالعراق مع إقبال خادم المسترشد بالله ثلاثة آلاف فارس.
وكان السلطان مسعود بهمذان في نحو ألف وخمس مائة فارس، وكان أكثر اصحاب الأطراف يكاتبون الخليفة ويبذلون له الطاعة، فتريث في طريقه، فاستصلح السلطان مسعود اكثرهم حتى صاروا في نحو خمسة عشر الف فارس، وتسلل جماعة كثيرة من عسكر الخليفة حتى بقي في خمسة آلاف، وارسل أتابك زنكي نجدة فلم تلحق.
وأرسل الملك داود ابن السلطان محمود وهو بأذربيجان إلى الخليفة يشير بالميل إلى الدينور ليحضر بنفسه وعسكره، فلم يفعل المسترشد ذلك وسار حتى بلغ دايمرج، وعبأ أصحابه، فجعل في الميمنة يرنقش بازدار ونور الدولة سنقرجة وقزل آخر وبرسق بن برسق، وجعل في الميسرة جاولي وبرسق شراب سلار وأغلبك الذي كان الخليفة قد قبض عليه وأخرجه من محبسه.
ولما بلغ السلطان مسعوداً خبرهم سار إليه مجداً، فواقعهم بدايمرج عاشر رمضان، وانحازت ميسرة الخليفة مخامرة عليه إلى السلطان مسعود فصارت معه، واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالاً ضعيفاً، ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتحرك من مكانه، وانهزم عسكره وأخذ هو أسيراً ومعه جمع كثير من أصحابه منهم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي وقاضي القضاة وصاحب المخزن ابن طلحة، وابن الأنباري والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم، وأنزل الخليفة في خيمة وغنموا ما في معسكره وكان كثيراً، فحمل الوزير وقاضي القضاة وابن الأنباري وصاحب المخزن وغيرهم من الأكابر إلى قلعة سرجهان، وباعوا الباقين بالثمن الطفيف، ولم يقتل في هذه المعركة أحد وهذا من أعجب ما يحكى.
وعاد السلطان إلى همذان وأمر فنودي: من تبعنا إلى همذان من البغداديين قتلناه، فرجع الناس كلهم على أقبح حالة لا يعرفون طريقاً وليس معهم ما يحملهم، وسير السلطان الأمير بك أبه المحمودي إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عبيد، فقبضوا جميع أملاك الخليفة وأخذوا غلاتها.
وثار جماعة من عامة بغداد، فكسروا المنبر والشباك، ومنعوا من الخطبة، وخرجوا إلى الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويبكون ويصيحون، وخرج النساء حاسرات في الأسواق يلطمن، واقتتل أصحاب الشحنة وعامة بغداد فقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين قتيلاً، وهرب الوالي وحاجب الباب.
وأما السلطان فإنه سار في شوال من همذان إلى مراغة لقتال الملك داود ابن أخيه محمود، وكان قد عصى عليه، فنزل على فرسخين من مراغة، والمسترشد معه، فترددت الرسل بين الخليفة وبين السلطان في الصلح، فاستقرت القاعدة على ما نذكره إن شاء الله، والله الموفق.

.ذكر قتل المسترشد بالله وخلافة الراشد بالله:

لما قبض المسترشد بالله أبو منصور بن الفضل بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد، على ما ذكرناه، أنزله السلطان مسعود في خيمة، ووكل به من يحفظه، وقام بما يجب من الخدمة، وترددت الرسل بينهما في الصلح وتقرير القواعد على مال يؤديه الخليفة، وأن لا يعود يجمع العساكر وأن لا يخرج من داره. فأجاب السلطان إلى ذلك، وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد. فوصل الخبر أن الأمير قران خوان قد قدم رسولاً من السلطان سنجر، فتأخر مسير المسترشد لذلك، وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه، وفارق الخليفة بعض من كان موكلاً به، وكانت خيمته منفردة عن العسكر، فقصده أربعة وعشرون رجلاً من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه، وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة، ومثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً، فقتل معه نفر من أصحابه منهم أبو عبد الله بن سكينة، وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة، وبقي حتى دفنه أهل مراغة.
وأما الباطنية فقتل منهم عشرة، وقيل: بل قتلوا جميعهم، والله أعلم. وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً.
وأمه أم ولد، وكان شهماً شجاعاً، كثير الإقدام، بعيد الهمة، وأخباره المذكورة تدل على ما ذكرناه. وكان فصيحاً بليغاً حسن الحظ، ولقد رأيت خطه في غاية الجودة ورأيت أجوبته على الرقاع من أحسن ما يكتب وأفصحه.
ولما قتل المسترشد بالله بويع ولده أبو جعفر المنصور، ولقب الراشد بالله، وكان المسترشد قد بايع له بولاية العهد في حياته، وجددت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة، وكتب السلطان مسعود إلى بك أبه الشحنة ببغداد فبايع له، وحضر الناس البيعة، وحضر بيعته أحد وعشرون رجلاً من أولاد الخلفاء، وبايع له الشيخ أبو النجيب، ووعظه، وبالغ في الموعظة. وأما جمال الدولة إقبال فإنه كان ببغداد في طائفة من العسكر، فلما جرت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي، وأصعد إلى تكريت وراسل مجاهد الدين بهروز، وحلفه وصعد إليه بالقلعة.

.ذكر مسير السلطان سنجر إلى غزنة:

في هذه السنة، في ذي القعدة، سار السلطان سنجر من خراسان إلى غزنة، وسبب ذلك أنه نقل إليه عن صاحبها بهرام شاه أنه تغير عن طاعته، وأنه قد مد يده إلى ظلم الرعايا واغتصاب أموالهم.
وكان السلطان سنجر هو الذي ملك غزنة، وقد ذكرناه سنة تسع وخمسمائة، فلما سمع هذه الأخبار المزعجة سار إلى غزنة ليأخذها أو يصلحه، فلما سلك الطريق وأبعد أدركهم شتاء شديد البرد، كثير الثلج، وتعذرت عليهم الأقوات والعلوفات، فشكا العسكر إلى السلطان ذلك وذكروا له ما هم فيه من الضيق وتعذر ما يحتاجون إليه، فلم يجدوا عنده غير التقدم أمامه، فلما قارب غزنة أرسل بهرام شاه رسلاً يضرع إلى سنجر ويسأل الصفح عن جرمه، والعفو عن ذنبه، فأرسل إليه سنجر المقرب جوهراً الخادم، وهو أكبر أميرعنده، ومن جملة أقطاعه مدينة الري، في جواب رسالته يجيبه عن العفو عنه إن حضر عنده وعاد إلى طاعته، فلما وصل إلى بهرام شاه أجابه إلى ما طلب منه من الطاعة وحمل المال والحضور بنفسه في خدمته، وأظهر من الطاعة والانقياد لما يحكم به السلطان سنجر شيئاً كثيراً.
وعاد المقرب جوهر ومعه بهرام شاه إلى سنجر، فسبقه المقرب إلى السلطان سنجر وأعلمه بوصول بهرام شاه، وأنه بكرة غد يكون عنده، وعاد المقرب إلى بهرام شاه ليجيء بين يديه، وركب سنجر من الغد في موكبه لتلقيه، وتقدم بهرام شاه ومعه المقرب إلى سنجر، فلما عاين موكب سنجر والجتر على رأسه نكص على عقبيه عائداً، فأمسك المقرب عنانه وقبح فعله، وخوفه عاقبة ذلك، فلم يرجع وولى هارباً ولم يصدق بنجاته ظناً منه أن سنجر يأخذه ويملك بلده، وتبعه طائفة من أصحابه وخواصه، ولم يعرج على غزنة، وسار سنجر إلى غزنة فدخلها وملكها واحتوى على ما فيها وجبى أموالها، وكتب إلى بهرام شاه كتاباً يلومه على ما فعله ويحلف له أنه ما أراد به سوءاً، ولا له في بلده مطمع، ولا هو ممن يكدر صنيعته وتعقب حسنته معه بسيئة، وإنما قصده لإصلاحه، فأعاد بهرام شاه الجواب يعتذر ويتنصل ويقول إن الخوف منعه من الحضور، ولا لوم على من خاف مثل السلطان، ويضرع في عوده إلى الإحسان، فأجابه سنجر إلى إعادة بلده إليه وفارق غزنة عائداً إلى بلاده، فوصل إلى بلخ في شوال سنة ثلاثين وخمسمائة واستقر ملك غزنة لبهرام شاه ورجع إليها مالكاً لها ومستولياً عليها.

.ذكر قتل دبيس بن صدقة بالتاريخ:

في هذه السنة قتل السلطان مسعود دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر خونج، أمر غلاماً أرمنياً بقتله، فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه، فضرب رقبته وهو لا يشعر، وكان ابنه صدقة بالحلة، فاجتمع إليه عسكر أبيه ومماليكه، وكثر جمعه واستأمن إليه الأمير قتلغ تكين، وأمر السلطان مسعود بك أبه أن يأخذ الحلة، فسار بعض عسكره إلى المدائن، وأقاموا مدة ينتظرون لحاق بك أبه بهم فلم يسر إليهم جبناً وعجزاً عن قصد الحلة لكثرة العسكر بها مع صدقة. وبقي صدقة بالحلة إلى أن قدم السلطان مسعود إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فقصده وأصلح حاله معه ولزم خدمته.
ومثل هذه الحادثة تقع كثيراً وهي قرب موت المتعاديين، فإن كان دبيساً كان يعادي المسترشد بالله ويكره خلافته، ولم يكن يعلم أن السلاطين إنما كانوا يبقون عليه ليجعلوه عدة لمقاومة المسترشد، فلما زال السبب زال المسبب، والله أعلم بذلك.

.ذكر حصر عسكر يحيى المهدية:

في هذه السنة سير يحيى بن العزيز بن حماد صاحب بجاية عسكراً ليحصروا المهدية، وبها صاحبها الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس، وكان سبب ذلك أن الحسن أحب ميمون بن زياد أمير طائفة كبيرة من العرب، وزاده على سائر العرب، فحسده العرب فسار أمراؤها إلى يحيى بن العزيز بأولادهم، وجعلوهم رهائن عنده، وطلبوا منه أن يرسل معهم عسكراً ليملكوا له المهدية، فأجابهم إلى ذلك وهو متباطيء. فاتفق أنه وصله كتب من بعض مشايخ المهدية بمثل ذلك، فوثق بما أتاه وسير عسكراً كثيفاً واستعمل عليهم قائداً كبيراً من فقهاء أصحابه يقال له مطرف بن حمدون.
وكان يحيى هذا هو وآباؤه يحسدون أولاد المنصور أبي الحسن هذا، فسارت العساكر الفارس والراجل ومعهم من العرب جمع كثير حتى نزلوا على المهدية وحصروها براً وبحراً. وكان مطرف ظهر التقشف والتورع عن الدماء، وقال: إنما أتيت الآن لأتسلم البلد بغير قتال، فخاف ظنه، فبقي أياماً لا يقاتل، ثم إنهم باشروا القتال فظهر أهل المهدية عليهم وأثروا فيهم، وتوالى القتال وفي كل ذلك الظفر لأهل البلد، وقتل من الخارجين جمادى غفير.
وجمع مطرف عسكره وزحف براً وبحراً لما يئس من التسليم، وقاتل أشد قتال، فملكت شوانيه شاطيء البحر، وقربوا من السور، فاشتد الأمر، فأمر الحسن بفتح الباب من الشاطيء وخرج أول الناس، وحمل هو ومن معه عليهم وقال: أنا الحسن! فلما سمع من يقاتله دعواه سلموا عليه، وانهزموا عنه إجلالاً له، ثم أخرج الحسن شوانيه تلك الساعة من الميناء، فأخذ من تلك الشواني أربع قطع، وهزم الباقي.
ثم وصلته نجدة من رجار الفرنجي، صاحب صقلية، في البحر، في عشرين قطعة، فحصرت شواني صاحب بجاية، فأمرهم الحسن بإطلاقها فأطلقوها، ثم وصل ميمون بن زياد في جمع كثير من العرب لنصرة الحسن، فلما رأى ذلك مطرف وأن النجدات تأتي الحسن في البر والبحر، علم أنه لا طاقة له بهم، فرحل عن المهدية خائباً، وأقام رجار الفرنجي مظهراً للحسن أنه مهادنه وموافقه وهو مع ذلك يعمر الشواني ويكثر عددها.

.ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة:

كانت جزيرة جربة من بلاد إفريقية قد استولت في كثرة عمارتها وخيراتها، غير أن أهلها طغوا فلا يدخلون تحت طاعة السلطان، ويعرفون بالفساد وقطع الطريق، فخرج إليها جمع من الفرنج، أهل صقلية، في أسطول كثير وجم غفير، فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة، فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها.
واجتمع أهلها وقاتلوا قتالاً شديداً، فوقع بين الفريقين حرب شديد، فثبت أهل جربة، فقتل منهم بشر كثير، فانهزموا وملك الفرنج الجزيرة، وغنموا أموالها وسبوا نساءها وأطفالها، وهلك أكثر رجالها، ومن بقي منهم أخذوا لأنفسهم أماناً من رجار ملك صقلية، وافتكوا أسراهم وسبيهم وحريمهم، والله أعلم بذلك.

.ذكر ملك الفرنج حصن روطة من بلاد الأندلس:

في هذه السنة اصطلح المستنصر بالله بن هود والسليطين الفرنجي صاحب طليطلة من بلاد الأندلس مدة عشر سنين. وكان السليطين قد أدمن غزو بلاد المستنصر وقتاله، حتى ضعف المستنصر عن مقاومته لقلة جنوده وكثرة الفرنج، فرأى أن يصالحه مدة يستريح فيها هو وجنوده، ويعتدون للمعاودة، فترددت الرسل بينهم، فاستقر الصلح على أن يسلم المستنصر إلى السليطين حصن روطة من الأندلس، وهو من أمنع الحصون وأعظمها، فاستقرت القاعدة واصطلحوا وتسلم منه الفرنج الحصن، وفعل المستنصر فعلة لم يفعلها قبله أحد.

.ذكر حصر ابن ردمير مدينة أفراغة وهزيمته وموته:

وفي هذه السنة حصر ابن ردمير الفرنجي مدينة أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة.
وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهز في خمس مائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وجعل الزبير الميرة أمامه وابن غانية أمام الميرة، وابن عياض أمام غانية، وكان شجاعاً بطلاً وكذلك جميع من معه.
وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، فاحتقر جميع الواصلين من المسلمين، فقال لأصحابه: اخرجوا وخذوا هذه الهدية التي أرسلها المسلمون إليكم، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم ابن عياض وكسرهم، ورد بعضهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، فحمل ابن غانية وابن عياض في صدورهم واستحر الأمر بينهم وعظم القتال فكثر القتل في الفرنج، وخرج في الحال أهل أفراغة ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، إلى خيام الفرنج، فاشتتغل الرجال بقتل من وجدوا في المخيم، واشتغل النساء بالنهب، فحمل جميع ما في المخيم إلى المدينة من قوت وعدد وآلات وسلاح وغير ذلك.
وبينما المسلمون والفرنج في القتال إذ وصل إليهم الزبير في عسكره فانهزم ابن ردمير وولى هارباً واستولى القتل على جميع عسكره فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قتل من أصحابه مات مفجوعاً بعد عشرين يوماً من الهزيمة، وكان أشد ملوك الفرنج بأساً، وأكثرهم تجرداً لحرب المسلمين، وأعظمهم صبراً، كان ينام على طارقته بغير وطاء، وقيل له: هلا تسريت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سبيت؟ فقال: الرجل المحارب ينبغي أن يعاشر الرجال لا النساء، وأراح الله منه وكفى المسلمين شره.